الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}.استئنافٌ جيء به في أواخر الأحكام السَّابقةِ تقريرًا لها وتأكيدًا لوجوب مراعاتِها وتكميلًا لها ببيانِ بعضٍ آخرَ من جنسها وإنَّما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيِّز الصِّلةِ للموصولِ الواقع خبرًا للمبتدأ مع تضمُّنِه له قطعًا تغيرًا لما قبله وتمهيدًا لما بعده وإيذانًا بأنه حفيفٌ بأن يجعل قرينًا للإيمان بهما مُنتظمًا في سلكه فقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} معطوفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّز الصِّلةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمانِ الذين آمنُوا بالله ورسولِه عن صميم قلوبهم وأطاعوهُما في جميع الأحكامِ التي من جُملتها ما فُصِّل من قبل من الأحكامِ المتعلِّقةِ بعامة أحوالِهم المطَّردة في الوقوع وأحوالِهم الواقعة بحسب الاتِّفاقِ كما إذا كانُوا معه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أمر مهمَ يجب اجتماعُهم في شأنه كالجمعةِ والأعيادِ والحروبِ وغيرِها من الأمور الدَّاعيةِ إلى اجتماع أولي الآراءِ والتَّجارِب، ووصف الأمر بالجمعِ للمبالغة وقرئ أمرٍ جميعٍ {لَّمْ يَذْهَبُواْ} أي من المجمعِ مع كون ذلك الأمرِ مما لا يوجبُ حضورَهم لا محالةَ كما عند إقامة الجمعةِ ولقاء العدوِّ بل يسوِّغ التَّخلفَ عنه {حتى يَسْتَئذِنُوهُ} عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الذهابِ لا على أنَّ نفسَ الاستئذانِ غايةٌ لعدم الذَّهاب بل الغاية هي الإذنُ المنوط برأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والاقتصار على ذكرِه لأنَّه الذي يتمُّ من قبلهم وهو المعتبرُ في كمال الإيمانِ لا الإذنُ ولا الذهابُ المترتِّبُ عليه، واعتبارُه في ذلك لِما أنَّه كالمصداقِ لصحَّتِه والمميِّز للمخلصِ فيه عن المنافق فإنَّ ديدنه التَّسللُ للفرار ولتعظيم ما في الذهابِ بغير إذنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الجنايةِ وللتَّنبيهِ على ذلك عقب بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} فقَضَى بأنَّ المستأذنينَ هم المؤمنون بالله ورسولِه كما حكم في الأول بأنَّ الكاملينَ في الإيمان هم الجامعونَ بين الإيمانِ بهما وبين الاستئذانِ وفي أولئك من تفخيم شأنِ المستأذنينَ ما لا يخفى {فَإِذَا استئذنوك} بيانٌ لما هو وظيفتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا البابِ إثرَ بيانِ ما هو وظيفةُ المؤمنينَ وأن الإذن عند الاستئذانِ ليس بأمرٍ محتومٍ بل هو مفوَّض إلى رأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقَّق أنَّ الكاملين في الإيمان هم المستأذنُون فإذا استأذنوك {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي لبعضِ أمرِهم المهم وخَطبهم المُلِّمِ {فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} لما علمتَ في ذلك من حكمةٍ ومصلحةٍ {واستغفر لَهُمُ الله} فإنَّ الاستئذانَ وإنْ كان لعذرٍ قويَ لا يخلُو عن شائبةِ تقديمِ أمرِ الدُّنيا على أمرِ الآخرةِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} مبالغ في مغفرةِ فرطاتِ العبادِ {رَّحِيمٌ} مبالغ في إفاضةِ آثار الرَّحمةِ عليهم. والجملةُ تعليلٌ للمغفرة الموعودةِ في ضمن الأمرِ بالاستغفار لهم. اهـ..قال الألوسي: ثم جعل تبارك وتعالى ختام الختم.قوله سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}. إلخ دلالة على أن ملاك ذلك كله والمنتفع بتلك الآيات جمع من سلم نفسه لصاحب الشريعة لصلوات الله تعالى وسلامه عليه كالميت بين يدي الغاسل لا يحجم ولا يقدم دون إشارته صلى الله عليه وسلم ولهذه الدقيقة أورد هذه الآية شهاب الحق والدين أبوحفص عمر اليهروردي قدس سره في باب سير المريد مع الشيخ ونبه بذلك أن كل ما يرسمه من أمور الدين فهو أمر جامع.وقال شيخ الإسلام: إن هذا استئناف جيء به في أواخر الأحكام السابقة تقريرًا لها وتأكيدًا لوجوب مراعاتها وتكميلًا لها ببيان بعض آخر من جنسها، وإنما ذكر الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم صلة للموصول الواقع خبرًا للمبتدأ مع تضمنه له قطعًا تقريرًا لما قبله وتمهيدًا لما بعده وإيذانًا بأنه حقيق بأن يجعل قرينًا للايمان المذكور منتظمًا في سلكه فقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} الخ معطوف على {ءامَنُواْ} داخل معه في حيز الصلة وبذلك يصح الحمل، والحصل باعتبار الكمال أي إنما الكاملون في الايمان الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن صميم قلوبهم وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الاتفاق كما إذا كانوا معه عليه الصلاة والسلام على أمر مهم يجب اجتماعهم في أنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع لغرض من الأغراض، وعن ابن زيد أن الأمر الجامع الجهاد؛ وقال الضحاك: وابن سلام: هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء، وعن ابن جبير هو الجهاد وصلاة الجمعة والعيدين، ولا يخفى أن الأولى العموم وإن كانت الآية نازلة في حفر الخندق ولعل ما ذكر من باب التمثيل، ووصف الأمر بالجمع مع أنه سبب له للمبالغة، والظاهر أن ذلك من المجاز العقلي، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية.وقرأ اليماني {على أَمْرٍ جَمِيعٌ} وهو بمعنى جامع أو مجموع له على الحذف والإيصال {لَّمْ يَذْهَبُواْ} عنه صلى الله عليه وسلم {حتى يَسْتَذِنُوهُ} عليه الصلاة والسلام في الذهاب فيأذن لهم به فيذهبون فالغاية هي الإذن الحاصل بعد الاستئذان والاقتصار على الاستئذان لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الايمان لا الأذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص عن المنافق فإن ديندنه التسلل للفرار، ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه عليه الصلاة والسلام من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب سبحانه بقوله عز وجل: {إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} فقد جعل فيه المستأذنين هم المؤمنون عكس الأول دلالة على أنهما متعاكسان سواء بسواء ومنه يلزم أنه كالمصداق لصحة الأيمانين وكذلك من اسم الإشارة لدلالته على أن استئهال الايمانين لذلك {فَإِذَا} بيان لما هو وظيته صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين، والفار لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الايمان هم المستأذنون {فإذا استأذنوك لبَعْض شَأْنهمْ} أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم المسلم أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم المسلم {شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} تفويض للأمر إلى رأيه صلى الله عليه وسلم؛ واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له: احكم بما شئت فإنه صواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران: بجواز ذلك مطلقًا للنبي وغيره من العلماء، وقال أبو علي الجبائي: بجواز ذلك للنبي خصة في أحد قوليه، وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنغ ومنع من ذلك الباقون.والمجوزون اختلفوا في الوقوع، قال الآمدي: والمختار الجواز دون الوقوع، وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع.والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويًا لا تشيهًا ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالاجتهاد، والأليق بشأن الله تعالى وشأن رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة.وذكر بعض الفضلاء أنه لا خلاف في جواز أن يقال: احكم بما شئت ترويًا بل الخلاف في جواز أن يقال: احكم بما شئت تشهيًا كيفما اتفق، وأنت تعلم أنه بعد التقييد لا يكون ما نحن فيه من محل النزاع، ومن الغريب ما قيل: إن المراد ممن شئت منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يخفى ما فيه {واستغفر لَهُمُ الله} فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة.وتقديم {لَهُمْ} للمبادرة إلى أن الاستغفار للمستأذنين لا للإذن.{أَنَّ الله غَفُورٌ} مبالغ في مغفرة فرطات العباد {رَّحِيمٌ} مبالغ في إفاضة شابيب الرحمة عليهم، والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الاستغفار لهم، وقد بالغ جل شأنه في الاحتفال برسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه فجعل سبحانه الاستئذان للذهاب عنه ذنبًا محتاجًا للاستغفار فضلًا عن الذهاب بدون إذن ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان مطلقًا ولا على الاستئذان لأي أمر مهما كان أو غير مهم ومع ذلك علق الإذن بالمشيئة، وإذا اعتبرت وجوه المبالغة في قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون} إلى هنا وجدتها تزيد على العشرة.وفي أحكام القرآن للجلال السيوطي أن في الآية دليلًا على وجوب استئذانه صلى الله عليه وسلم قبل الانصراف عنه عليه الصلاة والسلام في كل أمر يجتمعون عليه، قال الحسن: وغير الرسول صلى الله عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس، وقال ابن الفرس: لا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الانصراف واختلف في صلاة الجمعة إذا كان له عذر كالرعاف وغيره فقيل يلزمه الاستئذان سواء كان أمامه الأمير أم غيره أخذًا من الآية وروى ذلك عن مكحول. والزهري. اهـ..قال القاسمي: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}.قال الزمخشري: أراد عزَّ وجلَّ أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه. فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله. وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره. وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرًا عنه بموصول، أحاطت صلته بذكر الإيمانيْن. ثم عقبه بما يزيده توكيدًا وتشديدًا، حيث أعاده على أسلوب آخر، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وضمنه شيئًا آخر. وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانَيْنِ، وعرّض بحال المؤمنين وتسلّلهم لواذًا. ومعنى قوله: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصوبأن يأذن له.والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس. فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز. وذلك نحو مقاتلة عدوّ، أو تشاور في خطب مهم، أو تضامّ لإرهاب مخالف، أو تسامح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ: أمر جميع. وفي قوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أنه خطب جلل، لابد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة، يظاهرونه عليه ويعاونونه، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم، في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال، مما يشق على قلبه، ويشعّث عليه رأيه فمن ثم غلّظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط، ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} وذكرُ الاستغفار للمستأذنين، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدّثوا أنفسهم بالذهاب، ولا يستأذنوا فيه.وقيل: نزلت في حفر الخندق. وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل، ولا يتفرقون عنهم، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام. إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن. على حسب ما اقتضاه رأيه.تنبيه:استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوّضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم. وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض. وهي مبسوطة في الأصول. اهـ.
|